عام على "طوفان الأقصى"- دروس الإنسانية وهزائم إسرائيل

المؤلف: د. ياسين أقطاي10.07.2025
عام على "طوفان الأقصى"- دروس الإنسانية وهزائم إسرائيل

لقد انقضى عام على "طوفان الأقصى"، عامٌ تجسدت فيه وطأة الزمن، وثقلت أيامه على الإنسانية جمعاء. عامٌ شهد لحظات عصيبة، بدت فيه الدقائق كأنها شهور طويلة، والإنسانية تتدهور نحو أسفل سافلين. إلا أن صمود المقاومة الفلسطينية بزغ كشعلة أمل، لينعش تطلعاتنا نحو مستقبل أفضل، ويثبت أن الخير باقٍ في هذا العالم. أما بالنسبة لأهالي غزة الصامدة، الذين عانوا قسوة الظلم والجشع، وشهدوا فظائع الإبادة، فقد كان هذا العام أطول وأكثر مرارة من أي وقت مضى. والآن، بعد مرور هذه الحقبة العصيبة، حان الوقت لنتأمل ونستخلص العبر والدروس، ونقيم ما ربحته الإنسانية وما فقدته في هذه التجربة القاسية.

بادئ ذي بدء، يجب أن نؤكد بكل وضوح أن الأحداث لم تنطلق شرارتها في السابع من أكتوبر، سواء من حيث الاحتلال الصهيوني الغاشم، أو من حيث العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني، أو حتى من حيث المقاومة الباسلة التي نشأت كرد فعل طبيعي لهذا الظلم التاريخي. ولكن ما جعل السابع من أكتوبر نقطة تحول فارقة في مسار الصراع هو أن المقاومة الفلسطينية، وللمرة الأولى منذ 75 عامًا، استطاعت أن تأخذ بزمام المبادرة، وشنّت هجومًا مباغتًا ومذهلًا، أحدث صدمة هائلة في صفوف الاحتلال وأعوانه.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

فاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها

list 2 of 2

أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل

end of list

وعلى مدار هذا العام، لم تتوانَ إسرائيل عن تبرير جرائمها الوحشية والإبادة الجماعية التي ارتكبتها في غزة، متذرعة بعملية "طوفان الأقصى" كذريعة واهية لتغطية بشاعتها. وبطبيعة الحال، استمرت الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية في تقديم الدعم المطلق لإسرائيل، متجاهلة الحقائق الدامغة، ومتبنية تلك التبريرات الكاذبة. لكن العالم بأسره أدرك تمامًا أن السابع من أكتوبر لم يكن سببًا، بل كان نتيجة حتمية لعقود طويلة من العدوان والاحتلال والقمع.

وعلى مدى الخمسة والسبعين عامًا التي سبقت طوفان الأقصى، قدمت الولايات المتحدة وأوروبا دعمًا سخيًا وغير محدود لإسرائيل، تجسد في الدعم الدبلوماسي والسياسي في المحافل الدولية، واستخدام حق النقض (الفيتو) مرارًا وتكرارًا لحماية سياساتها الاحتلالية والهمجية.

كما قدمت دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا بمليارات الدولارات سنويًا، وانحيازًا إعلاميًا فظيعًا، صوّر إسرائيل كدولة ديمقراطية وحضارية، محاطة بأعداء همجيين متوحشين، على أهبة الاستعداد لابتلاعها.

وعلى مدى 75 عامًا من الوحشية والعدوان المستمر الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، لم يتلقَّ الفلسطينيون أي دعم يُذكر، لا من العالم العربي والإسلامي، ولا من الأمم المتحدة، ولا حتى من الولايات المتحدة التي تدّعي بين الفينة والأخرى، بوقاحة سافرة، أنها وسيط محايد ونزيه. واستمرت إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية، وسلب حقوق الفلسطينيين المشروعة، وتهجيرهم قسرًا من منازلهم وأراضيهم، ضاربة بعرض الحائط كافة القوانين والأعراف الدولية.

لقد استخفت إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة، واستمرت في عمليات الاحتلال والانتهاكات دون حسيب أو رقيب، حتى أصبح هذا النمط من السلوك العدواني مألوفًا في جميع أنحاء العالم، وكأنه قدر محتوم. وقد أدت هذه الألفة إلى تطبيع هذه الانتهاكات، مما جعلها تبدو وكأنها حق مكتسب لإسرائيل، لا يمكن لأحد أن ينازعها فيه. والأسوأ من ذلك، أن جميع أعمال المقاومة الفلسطينية المشروعة باتت تُصوَّر على أنها تهدد هذا الروتين المزعوم، وتخلق حالة من الاضطراب والفوضى وعدم الأمان، مما أدى إلى شعورٍ بالإحباط واليأس.

وبذلك، تحولت القضية الفلسطينية العادلة إلى قضية مهملة ومنسية، يُنظر إليها على أنها عبء ثقيل لا طائل منه، يثير الضجر والملل، ويزعزع استقرار العالم. وللأسف، لم تقتصر هذه الرؤية المشوهة على الدول الغربية وشعوبها فقط، بل بدأت تتسرب تدريجيًا إلى أذهان بعض شعوب العالم الإسلامي أيضًا.

فقد زعموا أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الحديثة والمؤسسية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، ويُعتبر المستوطنون الذين يقيمون فيها جزءًا من حالة إنسانية مأساوية، ترتبط في خلفيتها بمأساة "المحرقة"، مما أضفى شرعية إنسانية زائفة على وجودهم غير الشرعي. أما تهجير الفلسطينيين من منازلهم قسرًا بسبب هذا البرنامج الاستيطاني الخبيث، فقد بات يُعتبر مسألة هامشية يمكن التغاضي عنها وتجاهلها.

لقد تمكنت إسرائيل الصهيونية، على مدار 75 عامًا من الاحتلال الوحشي الذي تمارسه بلا حدود وبشكل سافر، من إقناع أصدقائها وخصومها على حد سواء بأن هذا الاحتلال هو بمثابة جهد أصيل للحفاظ على وجودها وبقائها، وتأمين مستقبلها المزعوم.

ولكن عملية "طوفان الأقصى" المباركة، وما تلاها من تحركات إجرامية لجهاز القتل الصهيوني، كشفت فجأة الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام أعين العالم أجمع. فقد أصبح الوجه العنصري والمتعجرف والظالم والمجرم، مرتكب المجازر والإبادات الجماعية، الذي كان متخفيًا وراء قناع الديمقراطية والتقدم، مكشوفًا ومعروفًا للجميع، لا يمكن إنكاره أو تزييفه.

وخلال عام واحد فقط، تجاوز عدد القتلى الأبرياء الذين أزهقت إسرائيل أرواحهم البريئة 41,788 شخصًا، يشكل الأطفال والنساء والشيوخ نسبة مروعة تبلغ 75% منهم (أكثر من 16,891 طفلًا و11,458 امرأة). ولا يزال أكثر من 10,000 فلسطيني، من بينهم أكثر من 5,000 طفل، عالقين تحت أنقاض المنازل المدمرة، ينتظرون الموت المحقق.

ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، تجاوز عدد الجرحى والمصابين 96,794، ومعظمهم من الأطفال والنساء. وقد فقد أكثر من 17,000 طفل في غزة أحد والديه أو كليهما، ليصبحوا أيتامًا بلا معيل أو سند. كما تُوفي العديد من الأطفال الأبرياء، خاصة في شمال قطاع غزة المحاصر، نتيجة سوء التغذية الحاد والعطش الشديد، في ظل تفاقم أزمة نقص المواد الغذائية والأدوية والإمدادات الطبية الضرورية. ومنذ السابع من أكتوبر، استشهد ما لا يقل عن 54 فلسطينيًا في السجون الإسرائيلية سيئة السمعة، نتيجة التعذيب المنهجي الوحشي والإهمال الطبي المتعمد.

ووفقًا لمنظمة "الأورومتوسطية للحقوق"، تم اكتشاف 130 مقبرة جماعية مروعة في قطاع غزة المحاصر حتى الأول من مايو الماضي. وذكرت وزارة الصحة الفلسطينية، أنه عُثر على سبع مقابر جماعية في ثلاثة مستشفيات في غزة، تحتوي على أكثر من 520 جثة شهيد، بمن في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ.

وأسفر قصف المستشفى المعمداني المروع في 17 أكتوبر عن مقتل 471 شخصًا بريئًا، معظمهم من المرضى والجرحى والأطفال والنساء. كما قُتل أكثر من 85 فردًا من فرق الإنقاذ التابعة للدفاع المدني، وأكثر من 885 من العاملين في المجال الصحي والإنساني، أثناء أداء واجبهم النبيل في إنقاذ الأرواح وتقديم العون للمحتاجين. بالإضافة إلى ذلك، قُتل 212 من موظفي وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي المجرم، أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني.

هذه الأرقام المروعة تعكس بوضوح النهج الممنهج للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة على مدار عام واحد فقط. ومن الواضح تمامًا أن دولة قادرة على تقديم هذا النوع من الإحصائيات الفظيعة تمثل تهديدًا حقيقيًا ووجوديًا للإنسانية جمعاء. فكلما زادت الجرائم المرتكبة في مجتمع ما، ازدادت خطورة السماح للأفراد الذين لهم سوابق إجرامية بالتجول بحرية دون عقاب.

بيدَ أن إسرائيل، من خلال ارتكابها هذه الجرائم المروعة، أظهرت أنها قادرة على تكرارها وارتكاب المزيد منها، دون أدنى شعور بالندم أو الخجل. ورغم ذلك، واصلت الولايات المتحدة الأمريكية تقديم دعمها المطلق واللامحدود لإسرائيل على مدى العام المنصرم، رغم كل الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها خلال تلك الفترة المظلمة.

وعلى مدار عام كامل، واصلت إسرائيل ارتكاب جرائمها البشعة، وواصلت الولايات المتحدة بدورها تقديم دعمها غير المشروط واللامحدود. لكن استمرار تراكم هذه الجرائم طوال هذا العام، كيفما نظرنا إليه، ما هو إلا فشل ذريع ومخز، سواء لإسرائيل أو للقوى التي تستمر في دعمها وتأييدها دون حدود أو تحفظ.

عندما بدأت إسرائيل هجماتها العدوانية الشرسة، التي تحولت إلى إبادة جماعية شاملة، أعلنت عن هدفين رئيسيين: الأول، تدمير قدرة حركة حماس على القتال وقيادتها الرشيدة، والثاني، تحرير الرهائن المحتجزين لديها. ورغم القوة العسكرية الغاشمة وغير المتناسبة التي استخدمتها، نجد بعد مرور عام كامل أن أهدافها لم تحقق أي نتائج ملموسة، وأنها لم تحصد سوى الفشل التام والخزي والعار في كلا الهدفين.

إن التاريخ يخبرنا بوضوح أن إسرائيل أصبحت تمتلك كل المقومات والعوامل التي تهدد وجودها وبقائها. فضائح الفساد المالي والإداري التي تورط فيها رؤساء حكومتها المتعاقبون، والقضايا القانونية الخطيرة التي يواجهها رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، والتوسع العسكري المفرط الذي يستنزف موارد الدولة ومقدراتها، والتكاليف الباهظة للحرب المدمرة التي تنذر بأزمة اقتصادية طاحنة ستواجه حكومتها وشعبها، والاحتجاجات الشعبية المستمرة التي تهدد المجتمع الإسرائيلي وقدرة الحكومة على المحافظة على استقرار النظام وسيطرتها المطلقة.

هذه الاحتجاجات العارمة ضد الحكومة الإسرائيلية تزايدت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، سواء بسبب القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. هذه الاحتجاجات تعكس حالة الغضب والاستياء العارم من سياسات الحكومة الظالمة والمجحفة، وتكشف عن تصاعد المعارضة الداخلية ضد سياساتها العدوانية.

إسرائيل تواجه بالفعل عزلة دبلوماسية جزئية؛ بسبب سياساتها القمعية والدموية تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل. الكثير من الدول والمنظمات والكيانات الدولية تُدين بشدة سياسات الاستيطان والاحتلال والتوسع التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية. وفي حال زادت عزلة إسرائيل على الساحة الدولية، فإن هذا قد يؤدي حتمًا إلى تراجع دعمها الخارجي، خاصة إذا تغيرت مواقف الولايات المتحدة أو أوروبا؛ بسبب الضغوط الداخلية المتزايدة أو التحولات الجذرية في السياسة الدولية.

أيضًا، لا عجب في تلك التنبؤات والتحذيرات المتزايدة بشأن اندلاع حرب أهلية وشيكة في إسرائيل، فهي مجتمع شديد التنوع والانقسام، يشمل العلمانيين والمتدينين واليهود من أصول ومشارب مختلفة. التوترات والخلافات العميقة بين هذه المجموعات حول القيم الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية موجودة وقائمة منذ زمن بعيد، ثم زادت حدتها وتفاقمت بشكل عنيف ومأساوي بعد الحرب الأخيرة على غزة. وإذا استمرت هذه الانقسامات الحادة، فقد يؤدي ذلك في النهاية إلى انهيار المجتمع الإسرائيلي بالكامل.

إن تصعيد العدوان الذي نشهده اليوم من قبل إسرائيل يبدو أنه مستوى آخر من الجنون والتهور، ولكنها تسعى يائسة لاستعادة هيبتها المفقودة أمام حركة حماس والعالم بأسره، وتعلم في قرارة نفسها أنها أصبحت في وضع حرج وخطير يهدد وجودها بشكل حقيقي وملموس.

إسرائيل تعيش يوميًا هزائمها المتلاحقة التي بدأت منذ السابع من أكتوبر، وستستمر هذه الهزائم بفعل صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري وصمود المقاومة الباسلة التي لا تواجه فقط جيشًا مدججًا بالسلاح، بل تواجه كيانًا سياسيًا واجتماعيًا هشًا، يعاني من أزمات داخلية حادة تضاف إلى الضغوط الخارجية المتزايدة. ومع تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، ومع تآكل الدعم الدولي مع مرور الوقت، قد تواجه إسرائيل مستقبلًا غير مستقر ومجهول المعالم. كل هذا يشير بوضوح إلى أن سقوط إسرائيل قد يكون أقرب مما يتوقعه الكثيرون، وأننا قد نشهد سقوط إسرائيل التام والمدوي في غضون سنوات قليلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة